بقلم: رجا طلب
معظم الحروب ومنذ مطلع الالفية الثانية تتساوى فيها المدافع مع الاعلام وفي بعض الحالات تبدأ الحروب في الاعلام ثم تنتقل بعد ذلك الى المواجهة المسلحة، وهذا هو حال الحرب المشتعلة في اوكرانيا فطبول الحرب الاعلامية دقت مبكرا من اجل تحضير الساحة لحرب لن تنتهي بوقف اطلاق النار، بل ستبدأ آثارها العميقة على الصعد كافة بعد أن تسكت المدافع ويدخل العالم برمته اجواء «الحرب الباردة» من جديد، ولانها كذلك ولان واشنطن هندستها منذ حقبة اوباما من اجل كسر شوكة روسيا والى الابد، فقد دفعت ادارة بايدن بكل قدراتها الى ميدان هذه المعركة وتحديدا على الصعيد الاعلامي–الدعائي، واعتقد جازما أن هناك غرفة عمليات جهزت من اجل ادارة الحرب اعلاميا ودعائيا وكان القرار الاول لهذه الغرفة هو الحديث المتكرر عن موعد بدء الهجوم الروسي وذلك من اجل كسر اي تردد لدى الرئيس بوتين في اتخاذ قرار شن الحرب وخلق اجواء عامة لها في كافة انحاء العالم، وفي التدقيق بمجريات الحرب وما صاحبها يمكن التوقف عند النقاط التالية:
• التركيز على شخصية الرئيس الاوكراني زلينسكي وصناعته «كبطل صامد وضحية بريئة» وخلق انطباع عام لدى الاوكرانيين والعالم بأن بقاء ظهوره وما يدلي به من تصريحات دليل على صمود اوكرانيا وقوتها، وتوظيف ظهوره الدائم في بث الاشاعات والمعلومات المضللة فيما يخص مجمل تطورات الحرب بل وممارسة الابتزاز السياسي والعاطفي للعالم من أجل دعم اوكرانيا وتحويلها لقضية «ضمير» ومظلومية.
• التركيز على الصاق تهم «ارتكاب جرائم حرب» في أوكرانيا من قبل القوات الروسية، والمضحك أن هذه «الاسطوانة» بدأها زلينسكي في الساعات الأولى للاجتياح الروسي لأوكرانيا، واستمرت هذه الاسطوانة تتردد على ألسن المسؤولين الأوكران والأميركيين والدول الغربية حتى باتت وخلال أول أيام للحرب وكأنها بديهة من البديهيات، ومن المحزن حقا ان ذلك كله تم دون وجود مشهد واحد لمثل هذه الجرائم او الابادة يظهر صور تلك الجثث او اسم المكان الذي ارتُكبت به تلك المجازر او نقل حتى شهادات حية من مواطنين أوكران أو غيرهم أو شهادات منظمات عاملة تابعة للامم المتحدة او منظمات حقوق انسان مستقلة مثل «امنستي» أو «هيومان رايت واتش».
• نظرا لأن روسيا أعلنت سلفا أنها لا تريد امتلاك أوكرانيا لأسلحة استراتيجية ونووية، كان التخطيط في غرفة إدارة العمليات يرمي إلى ضرورة إظهار روسيا كدولة مستهترة وأنها تقوم بالعبث بالأمن النووي، وهذا ما جرى في مفاعل «زارابوجيا» الذي سيطرت عليه موسكو في الثامن والعشرين من فبراير الماضي حيث جرى ترتيب هجوم على المحطة من قبل القوات الأوكرانية تسبب في إشعال حريق في أحد المباني التابعة لها، وبمجرد أن تم تنفيذ الخطة أعلن الجانب الأوكراني الخبر وبعدها انتشر الخبر انتشارا مريبا مقرونا باتهام روسيا بالعبث بالأمن النووي، غير أن الوكالة الدولية للطاقة النووية أكدت أن لا تسرب نوويا ولا اضرار لحقت اصلا بالمفاعل، أما ما لم ينتبه له عباقرة هذه الغرفة أن روسيا في حالة تسرب نووي ستكون الدولة المتضررة بالتساوي مع أوكرانيا.
• من أخطر الأمور والتي تفاجأت بها غرفة «الإعلام المشار إليها» كان كشف روسيا عن معامل المختبرات للأسلحة البيولوجية والجرثومية داخل أوكرانيا وخارجها، وقد أظهر نفي واشنطن والدول الغربية الفوري لهذه المعلومات دون أدنى تحقيق أو تمحيص بالادعاء الروسي حجم «التجييش» ضد اي شيء تقوله موسكو، وهي اي موسكو التي كانت قد تحدثت عن هذا الموضوع عام 2018 وواصلت الحديث عنه، وخلال تلك الفترة لم يطالب أي طرف التحقيق في الأمر.
يحاول الاعلام الغربي تصوير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أنه «مجنون» أو مقامر أو متهور لأنه قام بعمل «غير مبرر» والمقصود هنا الحرب على أوكرانيا، وهذا الإعلام الذي أثبت أنه كما «إعلام العالم الثالث» مقيد ويتلقى الأوامر بالهاتف، تديره إما عقول جاهلة أو عنصرية أو مراهقة، فهذه العقول لا تدرك أبعاد الصراع الدولي ولا محدداته ولا قوانينه، وبالتالي فهي تقفز إلى «التوصيف» والشيطنة والوسم دون القيام بواجبها في التحليل والفك والتركيب للأحداث وبخاصة تجاه حدث ضخم مثل أوكرانيا.
الرئيس بوتين ومن باب الموضوعية وليس التحيز، ليس مجنونا ولا متهورا بل هو رجل دولة استراتيجي يدرس خطواته وقراراته بهدوء ويملك فلسفة سياسية لم يطلع عليها الكثير من المراقبين أو حتى المهتمين بالشأن السياسي العالمي، هذه الفلسفة هي «النظرية السياسية الرابعة» للمفكر والفيلسوف الروسي الكسندر دوغين الذي يعد «عقل بوتين الاستراتيجي» وهي الرابعة لانها تأتي بعد الأيديولوجية النازية، وبعد الشيوعية وبعد الليبرالية وبكل تأكيد سوف يتساءل القارئ الكريم ما هي هذه النظرية ومن هو هذا الشخص؟
من الصعب الإجابة في هذا المقال وهذه المساحة المحدودة إجابة مستفيضة، ولكن يمكن الإشارة إلى أن الكسندر دوغين أحد أهم الفلاسفة في مجال علم الجغرافيا السياسية أو «الجيبولتيكا»، والف في عام 1999 كتابه الشهير الذي يعتمد عليه بوتين في سياسته الخارجية والمسمى (أسس الجيبولتيكا – مستقبل روسيا الجيبولتيكي)، ومن أهم الأسس التي طرحها دوغين في كتابه هذا ما يلي:
• أن الصراع اليوم بين روسيا وأميركا هو صراع «جيبولتيكي» وليس كما كان بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة «صراع ايديولوجي»، والصراع الحالي هو حتمي بمعنى أنه لا ينتهي إلا بتدمير أو هزيمة أحد الطرفين للطرف الآخر وهذا يعني أن وصول حلف الناتو إلى أوكرانيا وإغلاقه منفذ البحر الأسود بوجه موسكو يعنى نهاية روسيا كدولة عظمى.
• في تفسيره لمعنى الصراع الجيبولتيكي يرى دوغين أنه صراع بين اليابسة والبحر، وروسيا أسيرة اليابسة فيما أميركا وبريطانيا والدول الغربية تحتل البحر وتتمتع بمزاياه في الحركة والحيوية اللوجستية، ولذا كانت روسيا دائما تهدف للوصول إلى «المياه الدافئة» لتتحرر من ديكتاتورية اليابسة أو قدرية الجغرافيا، ويُشخص دوغين الصراع الحالي بين موسكو وواشنطن بالصراع بين «التيلولوقراطية أي القوى البرية من جهة والتلاسقراطيا أي القوى البحرية».
• يرى دوغين أيضا أن المشروع الاستراتيجي لروسيا يجب أن يكون بناء «الامبراطورية الاورواسيوية» وأن تكون هويتها وطنية «روسية فوق العرق والقومية»، دولة محافظة تنبذ الليبرالية وتحترم الموروث الديني والاجتماعي والثقافي للشعوب المنضوية تحت رايتها، ودوغين يشرح في أحد الفصول من كتابه أسباب الانحلال الاخلاقي والقيمي في المجتمعات الليبرالية – الرأسمالية ويرجعه لثقافة البحر وأهل البحر وحرية الحركة فيه وهي فرضية معرضة للنقد التاريخي والانثروبولوجي والسوسيولوجي.
• يعتقد دوغين اليوم وبعد أكثر من عقد على صدور كتابه المشار اليه ان هناك مدرسة تكونت في روسيا اسمها «البوتينية» مؤمنه ببوتين وبمبادئه وتطبقها.
في العودة لمجريات الاحداث وإسقاط «عقل دوغين عليها»، فان منع أوكرانيا من التحول لحليف لواشنطن هي مسألة حياة أو موت، وبالتالي ضرورة حياديتها إن لم يكن هناك إمكانية لتبعيتها لروسيا، أما السيطرة على شبه جزيرة القرم فهي ضرورة استراتيجية لمنع خنق روسيا وحرمانها من البحر.
“البوتينية» أو «الفلسفة الدوغانية» هما الشكل الجديد لدولة عظمى تاريخيا اسمها روسيا، من الواضح أن هذه الدولة تخوض حربا مصيرية في أوكرانيا من أجل البقاء، فهل تنجح أم لا؟
هذا هو السؤال الكبير!
ملاحظة: المقالات المنشورة عبر موقع “غزة بوست” الاخباري تعبر عن رأي كاتبها فقط، وليس الموقع، حيثُ أننا نفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية مقالات وآراء.