هل قابلت من قبل شخصا يصفه المحيطون بـ”أبو لمعة”، تلك التسمية التي تعود إلى شخصية تلفزيونية مصرية شهيرة، تتحدث عن أمور مستحيلة وكأنها حدثت بالفعل، وتقنعك أن كل شيء ممكن ومتاح، بل سهل جدا، كتسلق قمة جبل إيفرست في نصف ساعة، أو حتى إنجاز رواية من ألف صفحة في أسبوع. في الواقع تلك ليست شخصيات خيالية، وإنما هم أناس عاديون مصابون بـ”تأثير دانينغ-كروجر”، يظنون في أنفسهم وقدراتهم ظنونا غير واقعية.
أداء ضعيف.. وتوقعات عظيمة
وفي عام 1999 أجرى الباحثان ديفيد دانينغ، وجاستن كروجر، دراسة لاختبار قدرات مجموعة من الباحثين على التفكير المنطقي بشأن مجموعة من القواعد والمهارات الاجتماعية، لكن المفاجأة، كانت عقب انتهاء الاختبار، حين قام الباحثان بمنح المبحوثين استبيانا قصيرا بشأن شعورهم تجاه أدائهم، وبسبب نتائج هذا الاستبيان صاغ الباحثان ما عرف من وقتها بـ”تأثير دانينغ-كروجر” حيث سجل أصحاب أعلى التوقعات، تقييمات متدنية، بينما سجل أصحاب أقل التوقعات والتقديرات لنتائجهم أعلى التقييمات، وقد تأكدت نتائج الدراسة في العديد من المجالات المعرفية الأخرى كالرياضيات، والقراءة، واختبارات الذاكرة، وغيرها.
المبالغة في تقدير الذات، مع الجهل بحقيقة الأمور، تساهم في الوقاية من القلق الناتج عن عدم المعرفة (شترستوك)
وتعد حالة راشيل ليستر، المتسابقة البريطانية في مسابقة “إكس فاكتور عام 2007 أحد أبرز الأمثلة على تأثير “دانينغ-كروجر”، حيث بدت ثقتها بلا حدود وهي تتحدث عن نفسها، وكذلك أثناء الأداء، وحين انتهت من تقديم أغنيتها، سألت لجنة التحكيم بثقة شديدة “جيد جدا أليس كذلك؟” إلا أن الإجابات الصادمة أمطرتها، لتظهر مجموعة من ردود الفعل الغاضبة والعنيفة على المتسابقة التي لم تصدق ولم تتوقع نتيجة أقل من أن تصير نجمة الموسم بالكامل.
عادة ما يتم تقسيم العلاقة بين ثقة المرء بنفسه، ومدى حكمته ومعرفته الفعلية بالأشياء إلى 3 مراحل، غالبا ما يعلق المصابون بتأثير “دانينغ-كروجر” عند المرحلة الأولى منها، وهي:
ثقة ضخمة مقابل حكمة ومعرفة منخفضتين.
ثقة منخفضة في النفس وحكمة ومعرفة منخفضتان.
ثقة عالية في النفس وحكمة ومعرفة عاليتان.
وتتناسب العلاقة بين الثقة في النفس والمعرفة الحقيقية بصورة عكسية، فكلما أدرك المرء مقدار ما يجب أن يتعلمه، والحجم الحقيقي لما لديه حقا، تنخفض ثقته في نفسه، واحترامه للآخرين ممن يعلمون أكثر.
الجانب المضيء لتأثير “دانينغ-كروجر”
تناولت العديد من الفرضيات تأثير “دانينغ-كروجر”، التي تشير إلى أن الأفراد الذين يعانون منه، لا يكونون بالضرورة مبدعين نظرا لمبالغتهم في تقدير أنفسهم. غير أن دراسة نشرتها مجلة “ساينتفيك ريبورتس” في مايو/أيار الماضي تحت عنوان “لا يوجد دعم قوي لتأثير دانينغ-كروجر على الإبداع”، كشفت أن هذا التأثير، رغم انعكاسه على التقييم الذاتي الدقيق لقدرات الشخص، لا يؤثر بشكل كامل على الأداء الإبداعي.
هذه النتيجة قد تبدو غريبة، لكنها تنسجم مع دراسات أخرى ربطت بين تأثير “دانينغ-كروجر” والإبداع. الجانب المضيء لهذا التأثير يتجلى في مفهوم “نعيم الجهل”، حيث إن المبالغة في تقدير الذات، مع الجهل بحقيقة الأمور، تساهم في الوقاية من القلق الناتج عن عدم المعرفة. هذا القلق قد يسبب مشكلات نفسية وبدنية مثل اضطراب القلق العام وصعوبة الاسترخاء والشعور بالخوف.
المعرفة المتزايدة والوعي بحقيقة الأمور يؤديان إلى “نمط نشر الانتباه المركز” مما يساهم في انخفاض الأداء الإبداعي (غيتي إيميجز)
بالإضافة إلى ذلك، المعرفة المتزايدة والوعي بحقيقة الأمور يؤديان إلى “نمط نشر الانتباه المركز”، مما يساهم في انخفاض الأداء الإبداعي. هذه الميزة الأخرى لتأثير “دانينغ-كروجر” أشارت إليها عدة دراسات، منها دراسة نُشرت عام 2021 في كلية الدراسات العليا للفنون والعلوم في اليابان للباحثين إيتسوكي فوجيساكي وكازوهيرو أويدا. خلصت الدراسة إلى أن الأفراد ذوي المعرفة المهنية الأقل يمكنهم تحقيق أداء إبداعي أعلى من أولئك الذين يمتلكون معرفة مهنية أكبر، لأن الفئة الأخيرة تعاني من تشتت الانتباه وتبذل الجهد الإبداعي في اتجاهات مختلفة، مما يقلل من التركيز على مهمة بعينها.
هكذا تتخطى التأثير بنجاح
لا يدرك عدم الأكفاء أنهم كذلك، بسبب حالة التحيز المعرفي التي تسيطر عليهم، بشأن ما يظنون أنهم يعرفونه حقا، مع انخفاض في القدرة الإجمالية على أداء المهام، والقصور في استيعاب حقيقة الوضع العام، في الواقع لا يدرك المصابون بتأثير “دانينغ-كروجر” أنهم قاصرون في الواقع، والمفاجأة أن الجميع معرضون للإصابة بتجربة تأثير “دانينغ-كروجر”، دون أن يعرفوا حقا، لهذا يبدأ الحل مع محاولة إدراك حقيقة الموقف بطريقة منطقية ومحايدة، دون تحيز أو توقعات مبالغ بها، فالمعرفة هي نصف الحل، وهو ما يمكن إنجازه عبر عدة خطوات أهمها:
الاستمرار في التعلم والممارسة وعدم الاعتماد على التقييم الذاتي للمعرفة بالأمور.
سؤال الآخرين دوما كيف يرونك، وكيف يقيمون قدراتك، يشمل هذا الأصدقاء، والأهل وأيضا الخبراء في مجالك.
اعتماد النقد البناء وعدم تجاهل الملاحظات، أو النتائج السيئة للتقييمات، أو الاختبارات.
التساؤل باستمرار حول الأفكار والمعتقدات التي تسيطر علينا، وإلى أي مدى تستحق الثقة فيها؟
يرى ديفيد آلان دانينغ، وهو عالم نفس اجتماعي أميركي، بجامعة ميشيغان، والذي يحمل الجزء الأول من التأثير اسمه، أن كل شخص، مهما بدا سويا، لديه نقاط معينة من تأثير دانينغ-كروجر، وأشار في مقابلة سابقة له، أن الجميع لديهم فجوات في خبراتهم، ومبالغة في تقدير معرفتهم، وهو ما يتجلى في تصرفات مثل محاولة إصلاح السباكة لتزداد الأمور سوءا، وغيرها من الأمور التي تحمل ظنونا بمعرفة ما لا نعرفه.
ويشير دانينغ، أن الطريقة الأفضل لعدم الوقوع تحت التأثير، هو إدراك المرء، أنه مهما أصبح خبيرا في علم ما، فإنه يظل مبتدئا، وسوف يواجه تحديات جديدة باستمرار تتطلب منه مزيدا من التحسين والتعلم من الأخطاء.