لم يضيع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقته في الحديث أمام مجلسي الكونغرس عن غير الحرب والسلاح والدم، وتقديم صورة مؤلمة عما يصفه بالأهوال التي تعرضت لها إسرائيل فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
كان استدرار الخزائن الأميركية، عبر البكائيات الإسرائيلية التقليدية، ووصْل رحم العلاقة الوطيدة بين تل أبيب وواشنطن الهدف الأهم للخطاب الذي ألقاه الرجل المتهم على نطاق واسع بإدارة أبشع إبادة مفتوحة في العصر الحديث ولكن بدعم أميركي، وفوق منصة ما يوصف بأعظم مجلس تشريعي في العصر الحديث، وتلك مفارقة أخلاقية توقف عندها كثيرون.
لم يكن السلام في أي وقت ضمن القضايا التي عرضها نتنياهو أمام الكونغرس، كما كانت صفقة تبادل الأسرى الغائب الأهم عن خطاب المسؤول الأول في إسرائيل، رغم أن الولايات المتحدة الأميركية كانت العراب الأهم والأقوى من أجل الدفع إلى الأمام بالصفقة المذكورة.
فلماذا يتجاهل نتنياهو أهم ما يمكن أن تراهن عليه واشنطن -على الأقل في إدارتها الحالية- في تبييض جزء من صورتها التي يراها كثير من مواطنيها الرافضين للحرب ملوثة بالدماء الفلسطينية؟ وما الذي تستفيده واشنطن من مواصلة الالتحام أكثر فأكثر بروح التطرف في الحكومة اليمينية بإسرائيل؟
حتى لا تنتهي الحرب
يعرف نتنياهو أكثر من غيره أن تقدم صفقة الأسرى هو الخطوة الأولى نحو إنهاء الحرب، وإنهاء الحرب في المقابل هو الخطوة الأخيرة قبل أن يرمى بحكومته إلى قاع الهزيمة، وربما إلى غياهب السجون. وبتجاهل نتنياهو لقضية الصفقة، وهي أهم قضية تشغل بال معظم الإسرائيليين اليوم، في خطابه أمام الكونغرس، وهو أهم خطاب يلقيه الرجل زمانا ومكانا وسياقا، تظهر أهداف عدة أبرزها:
السعي المتواصل لعرقلة الوصول إلى أي اتفاق: وهو ما يعني أن كل ما قام به من تطمينات، واصطحابه لعدد من أسر الأسرى في رحلته إلى واشنطن لم يكن أكثر من ذرّ رماد في عيون أدمنت البكاء والترقب انتظارا لعشرات الأسرى الذين تحتجزهم فصائل المقاومة في قطاع غزة، ولا يبدي نتنياهو استعدادا لإعادتهم، حتى يعود القهقرى ناقضا ما استعد له.
إدارة مشهد ما قبل السقوط: يراهن نتنياهو على الحرب باعتباره السياق الوحيد الذي يمكن أن يحميه، وكل إطالة في أمدها وتضييق لمسارب الهدنة هو طوق نجاة للمسؤول الإسرائيلي الأكثر إثارة لغضب الحقوقيين في أنحاء العالم، وهو ما يؤكد ما ذهبت إليه الصحافة الإسرائيلية بأن نتنياهو ذهب إلى واشنطن حاملا مطالبه ومصالحه الشخصية المتركزة بشكل خاص على استمرار الحرب.
يتناقض الحديث عن الصفقة مع استمطاره لمزيد من الأسلحة الأميركية الأكثر قتلا وفتكا، وهو ما كان محل تركيز واضح منه في خطابه المطول أمام مجلسي الكونغرس.
وفي سبيل الحرب يراهن نتنياهو على الزمن، حتى يستمر العدوان إلى حين نجاح داعمه الأساسي والأهم دونالد ترامب، رغم الصعوبات المتعددة التي باتت تعترض هذا الفوز المرتقب، ذلك أن نتنياهو غير راض عن مستوى دعم الديمقراطيين لحربه المسعورة، وانقسام قواعدهم الشعبية وقادتهم السياسيين تجاهها.
ومع أن فصائل المقاومة وأنصارها ما فتئوا يتهمون الولايات المتحدة وقيادتها الديمقراطية بأنها المساند الأقوى والأعتى لعدوان إسرائيل المستمر على قطاع غزة منذ قرابة 10 أشهر، ومن دون واشنطن كان طوفان الأقصى قادرا على جرف أكثر من قطاع وجدار وقرى محصنة وحكومة في إسرائيل، حسب هؤلاء.
ومن أجل استدرار الدعم الأميركي، كان نتنياهو واضحا في سردياته التقليدية أن الحرب ليست بين حماس وإسرائيل، ولا بين إسرائيل وإيران، وإنما هي بين العالم الحر والإرهاب، وأن إسرائيل تخوض الحرب نيابة عن أميركا، وتكفي تلك المقدمة لتوقع نتيجة استجدائه “أعطونا السلاح بسرعة، لننتصر بسرعة”.
يمثل خطاب نتنياهو في الكونغرس بحد ذاته، وتجاهله لقضية الصفقة ونهاية الحرب، رسالة إلى التيارات اليمينية المتطرفة المكونة والداعمة لحكومته في إسرائيل وخارجها أنه لا تراجع عن موقفه المعروف بشأن استمرار الحرب حتى تحقيق أهدافها.
ورغم ما أثاره الخطاب من تداعيات ومواقف، فقد أحرز نتنياهو نجاحا في تحقيق نصر سياسي جزئي، من خلال كمّ الاحتفاء الذي لاقاه خطابه في الكونغرس.
وقد أشار بعض المغردين إلى أن المشرعين الأميركيين الحاضرين للخطاب صفقوا له 79 مرة خلال خطاب استمر 53 دقيقة لا أكثر، وهو ما يعني أن التصفيق كان موازيا لكل جملة.
ومع ذلك، فقد قاطعه نحو 80 مشرعا ديمقراطيا، وتعالت الأصوات المناهضة له في أوساطهم ومن خارجهم، واعتبرته رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة نانسي بيلوسي “أسوأ عرض قدمته شخصية أجنبية حظيت بشرف مخاطبة الكونغرس”.
والواقع أن خطاب نتنياهو في الكونغرس كان منذ الإعلان عنه قبل أسابيع إشكاليا وباعثا لردود فعل رافضة أو متحفظة في أوساط حقوقية وسياسية بأميركا وخارجها، لما يرمز إليه من مفارقات أخلاقية، فهو حديث مسؤول سياسي يلاحقه القضاء الدولي وتطارده الاتهامات بالمسؤولية عن أفظع مجازر العصر الحديث، أمام أهم مجلس تشريعي في العالم.
بيد أن نتنياهو -وهو يدرك حجم المأزق الذي يحيط به من كل جانب- لم يفوّت تلك الفرصة، رغم ضغوط المعارضة والعائلات الإسرائيلية عليه بتأجيل سفره إلى الولايات المتحدة حتى استعادة الأسرى من قطاع غزة.
كما يدرك أن هذا الخطاب يأتي في لحظة فارقة في تاريخ المنطقة وحاضر الولايات المتحدة في ظل ما سبقه من تطورات متعلقة بمحاولة اغتيال الرئيس السابق دونالد ترامب، وانسحاب الرئيس الحالي جو بايدن من السباق الرئاسي، وتقديم نائبته كامالا هاريس مرشحة للحزب الديمقراطي.
والواقع أن نتنياهو بخطابه أمس أمام الكونغرس حطّم رقما قياسيا، وأصبح أكثر مسؤول أجنبي تحدث أمام مجلسي الكونغرس (النواب والشيوخ) عبر التاريخ، متجاوزا رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل الذي تحدث 3 مرات أمام الكونغرس إبان الحرب العالمية الثانية.
فخلال نحو ربع قرن من الزمن، خطب نتنياهو 4 مرات أمام الكونغرس، كانت أولاها في عام 1996، ثم في عام 2011، و2015، وأخيرا 2024.
التفاف وخدعة لعائلات الأسرى
ناقض رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه بسرعة، فقد أعطى مؤشرات قبل سفره إلى الولايات المتحدة على قرب التوصل إلى صفقة أسرى، كما واصل إرسال إشارات مماثلة أثناء سفره إلى واشنطن لإلقاء خطابه الرابع أمام الكونغرس.
ومن أبرز هذه المؤشرات:
اجتماع مطول مع فريق التفاوض قبيل ساعات من سفره إلى الولايات المتحدة، وخلال ذلك قرر إرسال وفد التفاوض إلى الدوحة، بيد أن وسائل إعلام إسرائيلية ذكرت أمس الأربعاء أن زيارة وفد التفاوض الإسرائيلي إلى الدوحة لإجراء مباحثات بشأن التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى مع حركة حماس “أُجّلت إلى الأسبوع المقبل”.
أبلغ نتنياهو عائلات الأسرى في لقائه معهم قبيل سفره بأنه قد يتم التوصل قريبا إلى اتفاق يضمن إطلاق سراح أقاربهم، وذلك رغم احتدام القتال في القطاع.
كما ذكر نتنياهو -خلال لقاء مع ممثلي عائلات الأسرى الذين رافقوه إلى واشنطن- أن شروط إعادة جميع المحتجزين من غزة “بدأت تنضج”، مشيرا إلى أن إسرائيل تسعى لإعادتهم لأنه هدف من أهداف الحرب.
وبالتزامن مع ذلك، تحدث وزير إسرائيلي عن تقدم ملموس نحو إبرام صفقة تبادل الأسرى.
ورغم أن المعارضة وعائلات الأسرى تتحدث باستمرار عن ألاعيب نتنياهو وحيله الهادفة لتخفيف الضغط السياسي عنه، بينما يواصل رفض صفقة التبادل؛ فقد رأت أن ما حدث مثل تلاعبا بمشاعر أهالي الأسرى الذين استقبلهم وأكد لهم أن شروط التفاوض حول الأسرى بدأت تنضج، بينما ذهبت أطراف في حكومته إلى التصريح بأن هنالك تقدما فعليا في صفقة الأسرى، لينتهي الأمر بغياب تام لقضيتهم عن خطابه الطويل.
متتالية من الشروط والتعقيدات: التي ظل نتنياهو يطيل بها أمد الحرب والتفاوض منذ أشهر، وسط حديث متصاعد عن رفض نتنياهو لرؤية الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية التي يتهمها بأنها تسعى إلى فرض رؤية للحل تخالف رؤيته.
وأمام الخديعة الكبيرة التي وقعت فيها أسر الأسرى، كان نتنياهو في مواجهة وابل من الانتقادات الشديدة من المعارضة المناوئة له التي رأت في خطابه عارا وجريمة تجاه الأسرى وعائلاتهم.
وزيادة على ذلك، لاقى نتنياهو توديعا واستقبالات غير ودية من جماهير كبيرة في إسرائيل وفي الولايات المتحدة، فقد غادر مطار بن غوريون في تل أبيب والاحتجاجات تحيط به من كل جانب، وحين وطئت قدماه أرض الولايات المتحدة كانت الاحتجاجات الصاخبة في استقباله، رفضا لحربه على قطاع غزة ومطالبة له بسرعة إنهائها والموافقة على صفقة تبادل.
وبينما كان يلقي خطابه أمام الكونغرس كان الآلاف يتجمعون خارجه، وكانت صيحاتهم تقرع مسامعه وتنغص عليه ما يلاقيه من احتفاء من أعضاء الكونغرس.
وبين المطالب الشعبية الإسرائيلية المتصاعدة بإيجاد انفراج لطوفان اللهب المتواصل وإعادة الأسرى، وبين إصرار نتنياهو على السير قدما نحو نصر يوغل كل يوم في البعد وتنقطع السبل الموصلة إليه، يبقى الأسرى السطر الأخير في أجندة رئيس الوزراء الإسرائيلي ورفاقه الذين يعرفون أنهم سيكونون الأسرى القادمين إذا وضعت الحرب أوزارها.